روسيا في غمار حرب أخرى ولكن داخلية.. الإداريون في مواجهة التصحيحيين
ربما يشكل الانقسام بين الفاعلين الأقوياء في روسيا حول مدى سرعة إعادة البلاد إلى الأنماط والسياسات التي كانت سائدة في عهد الحكومة السوفيتية، أساسا لصراع داخل النخبة الروسية.
ورغم توقعات تشير إلى نقيض ذلك، لم يسبب الغزو الروسي لأوكرانيا انقساما داخل القيادة الروسية، ولم يؤد إلى إحياء معارضة نشطة، أو ظهور طرف يدعو للسلام.
وترى المحللة السياسية الروسية تاتيانا ستانوفايا، مؤسسة موقع "آر بوليتيك"، في تقرير نشرته مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، أن من المؤكد أن ضمن أفراد النخبة الروسية من يفضل، سرا، وضع نهاية للحرب، ولكن هؤلاء يحتفظون بمشاعرهم لأنفسهم.
وتخلص ستانوفايا، التي عملت 15 عاما رئيسة لقسم التحليلات بمركز السياسات التكنولوجية، للاستشارات السياسية- ومقره موسكو- إلى أن أوجه الانقسام الوحيدة داخل أروقة السلطة في روسيا حاليا تتلخص في اختلافات تكتيكية، مثل تلك التي تظهر بين الواقعيين، الذين قيموا الآفاق العسكرية والاقتصادية لروسيا، وبين من يدفعون صوب التصعيد، مهما كلف الأمر.
ورغم ذلك، ظهرت علامات متنامية خلال الأشهر الأخيرة على أن هناك خلافات بين الشخصيات داخل المؤسسة، والتي لا تملك فحسب رأيا في المناقشات رفيعة المستوى، بل تحظى أيضا بتأثير على جدول أعمال الدولة، وتملك القدرة على توصيل آرائها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي هذا الشأن، كان رد فعل السلطات واضحا على إعلان شركة ميتا أن تطبيق واتساب، الذي لم يتم حظره بعد في روسيا، سيحتوي قريبا على قنوات مثل تطبيق تليجرام .
وظهر معسكران: فقد حذر مسؤولون كبار في الإدارة الرئاسية من حظر تطبيق واتساب، وأشاروا إلى المخاطر الاجتماعية والسياسية التي قد تنجم عن قمع تطبيق المراسلة الأكثر شعبية في روسيا، حيث يستخدمه أكثر من 60% من السكان. وعلى النقيض، واستنادا إلى مخاوف من احتمال توظيف التطبيق كسلاح، دعا مقربون من الأجهزة الأمنية إلى فرض الحظر. ولاحقا، أعلنت "ميتا" (المعروفة سابقا باسم شركة فيسبوك) إن خدمة القنوات الجديدة لن تتاح في روسيا.
وكان الأمر كاشفا عندما عاد المدون دانيا ميلوخين، نجم تطبيق تيك توك الشهير، إلى روسيا بعدما انتقل للخارج لمدة عام كامل، ولكنه سرعان ما غادر مجددا إثر دعوات لتجنيده في الجيش.
وقال البعض داخل الحكومة إنه يجب أن يشعر الروس العائدون بالأمان وبالترحيب في وطنهم، ودعا آخرون إلى نبذهم، بل ومحاكمتهم. وكان مئات الآلاف من الروس فروا من بلادهم منذ بدء غزو موسكو لأوكرانيا.
ويكشف ذلك عن انقسام رئيسي من شأنه أن يمثل أساسا للصراع داخل النخبة. وصحيح أن هناك إجماعا قويا بين اللاعبين الأقوياء في روسيا على ضرورة تحاشي الهزيمة أمام أوكرانيا.
لكن رغم ذلك، هم مختلفون، بدرجة كبيرة، من الناحية التكتيكية، حول ما هو قادم، ويتم التعبير عن هذا التوتر بشكل متزايد عبر جهودهم للتأثير على بوتين- فيما يتعلق بمسائل حول كيفية تنظيم تدفق المعلومات والتعامل مع الروس الذين صار ولاؤهم محل شك، وسرعة ونطاق إضفاء الطابع السوفيتي على البلاد.
ويمكن إطلاق مسمى "الإداريين" و"التصحيحيين" على طرفي هذا الصراع. ويقود الإداريون شخصيات رفيعة المستوى تتولى إدارة الموارد الإدارية والإنتاجية والمالية، إضافة إلى أفراد يعملون مع السلطات في مشاريع منتقاة، ويرتبط بقاؤهم على قيد الحياة ارتباطا وثيقا بالقدرة على إثبات فعاليتهم، ونجاحهم في تكييف النظام مع الحقائق الجديدة، في أقرب وقت ممكن، ودون معاناة.
وتضم صفوف الإداريين مسؤولين بارزين في الكرملين، ومعظم الوزراء والمحافظين، ومسؤولي الشؤون المالية.ولدى كل واحد من هؤلاء ما يمكن أن يخسره، بداية من أدوات السلطة. كما أنهم مدافعون عن الوضع الراهن، ويبحثون عن سبيل لتحقيق أغراضهم دون تغيير هيكلي، ويرون أيديولوجية الدولة من منظور نفعي خالص، أي وسيلة لتأمين وضعهم. ولا يظهر أي طلب في هذه الدوائر يدعو إلى إصلاح شامل للنظام.
والإداريون لهم موقفهم الخاص بهم إزاء حرب أوكرانيا، ولكنهم يبذلون أقصى جهد لديهم ليخفوه. ففي الظروف الراهنة لا يمكن لأمثالهم ابداء رأيهم فيما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية.
ويختلف "التصحيحيون" جوهريا: حيث إن أجندتهم أطول، ولديهم خطط أكثر واقعية، ويرون المستقبل أكثر يقينا. وما لديهم من موارد إدارية ومالية وإعلامية محدودة، مثل نفوذهم، أي إنهم لا يملكون الكثير ليخسرونه. وهم يخشون الوضع الراهن، ويعتبرون النخبة الحاكمة عملاء، وطابورا خامسا محتملا، ومعارضين سريين للحرب.
وعلى النقيض من "الإداريين"، يملك "التصحيحيون" رؤية طويلة الأمد للسياسة الداخلية في روسيا والحرب مع أوكرانيا. وهؤلاء يصرون على ضرورة إجراء تغييرات عميقة ، تشمل إعادة توزيع الممتلكات، وتعزيز التحكم في الإعلام، وقمع أعضاء النظام الذين يُظن أنهم يرغبون السلام.
وتنسجم الأجهزة الأمنية (السيلوفيكي)، مع كل هذا، فمن ناحية، هي تضم بين صفوفها تكنوقراط- مثل وزير الدفاع سيرجي شويجو، ورئيس الأركان العامة فاليري جيراسيموف، والمدعي العام إيجور كراسنوف، الذين تشبه أساليبهم إلى حد كبير أساليب "الإداريين". ومن ناحية أخرى، هناك أيضا "تصحيحيون" سريون داخل هذه الأجهزة.
وبالنظر إلى أن الصراع بين "الإداريين والتصحيحيين" يشكل حاليا السياسة الداخلية بشكل مباشر، لم يعد التمييز بينهم ممارسة نظرية.
ولطالما كان الانقسام حاضرا بشكل أساسي، حيث كان جوهر تركيز النخبة الحاكمة دوما على الحلول العملية، وتلك التي على هامشها لصالح التغييرات الطويلة الأجل. ومع ذلك، وبالنظر إلى أن زيادة أمد الحرب وارتفاع تكلفتها، صارت المسألة التي تتعلق بكيفية المضي قدما من الموقف الحالي على نحو متزايد قضية هي بقاء النظام والأمة والدولة.
وفي ختام التحليل، تؤكد ستانوفايا، أنه كلما طال أمد الغموض، بشأن نتيجة الحرب، ارتفعت أصوات التصحيحيين: حيث إن عدم الاستقرار، والنكسات العسكرية والتصعيد وموقف روسيا المتردي في الحرب، كل هذه أمور تمكن التصحيحيين، وتقوض الإداريين.
وترى ستانوفايا أن روسيا أمام مفترق طرق، وإذا ما سقط النظام في يد الإداريين، حال حدوث اضطرابات داخلية، سوف تضعف قبضة السلطات على مقاليد السلطة. ورغم ذلك، إذا ما سيطر التصحيحيون على السلطة بشكل تام، فإن البلاد ستتحول إلى الستالينية.